
كتاب تاريخ ليبيا من منتصف القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين
ومن اللافت للنظر أن المناطق العربية التي كانت خاضعة لبني عثمان كانت أول ما تنبّه لتهالك الدولة العثمانية وللخطر الأوروبي في الوقت نفسه فحاولت أن تستعد له بما استطاعت من قوة وخاضت مع الغرب أشرس المعارك بينما تفاوتت مواقف العثمانيين انطلاقاً من مصالحهم الذاتية الخاصة. وانطلاقاً من هذا كله يمكننا تتبع الأحداث الأساسية التي يسير عليها الكتاب. فقد انفصلت ليبيا عن الإمبراطورية العثمانية في عهد الأسرة القرمافلية واستطاعت أن تنشئ جيشها الخاص، وأن تصدر العملة المستقلة وتضرب المدافع وتؤسس ترسانتها البحرية وتتصدى بذلك لأشرس قوات الاستعمار الأوروبي والأمريكي وأن تستقبل القناصل وتوقع المعاهدات... أما الحروب العربية الليبية ضد الدول الأوروبية، وبعد أن انضمت إليها الولايات المتحدة الأميركية واحدة من الدول الاستعمارية الرائدة، فيبسطها المؤلف بتفاصيل شاملة طريفة قلما نجد ما يماثلها في كتب التاريخ العربي المعاصر.
وما يميز كتاب بروشين عن غيره في كتابات المؤرخين نقطتان: التأملات الطريفة التي يطرحها الكاتب حول ما اصطلح على تسميته بحروب القرصنة ويسميها الكاتب "الحروب البحرية، أسبابها، وطبيعتها، ونتائجها، وأنها لم تكن وقفاً على "دول القراصنة" في الشمال الإفريقى بل شاركت فيها جميع الدول البحرية، في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وبنفس المستوى من الحماسة والغيرة والوحشية، وعلى مستوى واحد من النشاط كانت توظف بها الأموال وتؤسر السفن بما فيها ويباع الأسرى.
أما الأمر الثاني الذي يقدمه الكاتب بجدارة وتفصيل فيتعلق بـ"تجريم" دول الشمال الأفريقي ودفعها بالاسترقاق والعبودية. وهو أمر تتفق عليه جميع المصادر الغربية، ويقدم المؤلف معلومات مدققة عن أن تجارة الرقيق كانت نشاطاً أوروبياً-إنجليزيا في أول مرحلة. وبريطانيا التي أعلنت نفسها في القرن التاسع عشر عدوة تجارة العبيد كانت هي التي بدأت تلك التجارة وهي التي نقلت ملايين الأرقاء في أفريقيا إلى أمريكا حتى خلت مناطق أفريقيا من سكانها تقريباً... إن كتاب بروشين "تاريخ ليبيا في العصر الحديث. منتصف القرن السادس عشر-مطلع القرن العشرين"، بما يتضمنه من تأملات طريفة ومحاولة جادة في الدفاع عن الحق وتعاطفه المشروع مع شعب طرابلس المجيد، في صراعه ضد الدولة العثمانية ودسائس الدول الأوروبية، جدير بالقراءة وبأن يحتل مكانة في المكتبة التاريخية العربية.